تركز الأسواق المالية على كيفية معالجة البنوك المركزية للسياسة النقدية في تصديها للتضخم. غير أن تقشف السياسة المالية عبر وقف الإنفاق العام لمواجهة جائحة كورونا، هو ما يرجح أن يؤثر أكثر على أداء الاقتصاد العالمي العام المقبل.
كانت برامج الإنفاق العام في دعم الأسر والشركات هي أقوى محرك لتعافي الاقتصاد من أزمة كوفيد-19 وتقوم الحكومات حالياً بوقف هذه البرامج. تبلغ قيمة الأموال التي ستسحبها من الاقتصاد في 2022 نحو 2.5 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أي ما هو أكبر بخمس مرات من أي أموال سحبت من الاقتصاد منذ تحول السياسة المالية إلى التقشف بعد أزمة 2008، حسب تقديرات بنك “يو بي إس”.
تشير سياسة شد الحزام إلى تباطؤ نمو الاقتصاد، رغم أنها قد تساعد أيضاً بتهدئة الضغوط التضخمية التي تتصاعد في بعض البلدان، وهي تطبق بسرعات متباينة في أجزاء مختلفة من العالم ولأسباب متنوعة.
تنقضي برامج التحفيز الطارئة في الولايات المتحدة، لكن إدارة الرئيس جو بايدن تدفع باتجاه إقرار خطة إنفاق أطول أمداً، فيما تستعد أوروبا لاشتعال سجال حول السياسة التقشفية يعود للعقد الماضي مرة أخرى، كما يزعم قادة المملكة المتحدة بأن من واجبهم أخلاقياً أن يبدؤوا بخفض عجز الموازنة.
يخطط رئيس الوزراء الجديد في اليابان لزيادة الإنفاق العام، غير أن هذه الزيادة لن تقارن بحجم خطة التحفيز القياسية التي أقرتها البلاد في مواجهة جائحة كورونا، فيما تتبنى الصين سياسة حذرة إزاء الموازنة العامة، وهو موقف قد يتغير مع تباطؤ النشاط الاقتصادي. في بعض الأسواق الناشئة مثل البرازيل، يفجر ارتفاع معدل التضخم سجالاً حول حدود الإنفاق العام.
هناك أسباب ربما تجعل تأثير ذلك على الناتج العالمي أقل مما تشير إليه الأرقام العامة، فالموازنات التي وضعت للعام المقبل ليست مقدسة، وقد تعمد الحكومات لتعديلها إذا استمر خطر الفيروس، علاوة على أن بعض أموال التحفيز الاقتصادي التي أنفقت خلال الأشهر الثمانية عشرة الماضية تم تجنيبها، لذا فمن الممكن إنفاقها العم المقبل أو بعده، بما يخفف من تأثير ضربة السياسة المالية التقشفية.
الولايات المتحدة
تحولت سياسة الموازنة العامة من داعمة لنمو الاقتصاد الأمريكي إلى عبء عليه في الربع الثاني من السنة الحالية، حسب مؤشر “مؤسسة بروكينغز” (Brookings Institution) على تأثير السياسة المالية، وينتظر أن تستمر في هذا الاتجاه في العام المقبل بمتوسط معدل تأثير ربع سنوي يبلغ نحو 2.4% من إجمالي الناتج المحلي، رغم أن ذلك لا يأخذ في الحسبان القوانين المقبلة.
كان هناك بعض التعويض عن سحب برامج التحفيز في مواجهة الجائحة مثل زيادة إعانات البطالة. مددت إدارة بايدن برامج الائتمان الضريبي الخاصة بالأطفال، التي توفر إنفاقا شهريا بنحو 300 دولار لكل طفل، وهي سياسة مؤقتة قد تُجدد في إطار مشروع قانون للإنفاق الاجتماعي بقيمة 1.75 تريليون دولار على عشر سنوات، بنسبة 0.6% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي.
ما يزال مشروع القانون، الذي خُفضت ميزانيته إلى النصف فعلاً، محل نقاش تفصيلي لدى الديمقراطيين في الكونغرس، لذا لم يتضح حتى الآن شكله النهائي وتأثيره المالي. قد خطط البيت الأبيض لإجراءات ضريبية بقيمة تريليوني دولار في نفس الفترة من أجل تمويل هذا التشريع.
أُقر مشروع قانون منفصل حول البنية الأساسية بقيمة 550 مليار دولار بتأييد الحزبين وينتظر توقيع بايدن الإثنين، رغم أن جزءاً قليلاً من المبلغ سينفق العام.
منطقة اليورو
أعادت المناقشات حول كيفية العودة إلى الأوضاع الطبيعية مالياً إحياء توترات بين معسكر “ضبط المالية العامة” بقيادة ألمانيا وأولئك الذين يشغلهم أكثر تجنب تكرار الأزمة الاقتصادية التي وقعت خلال العقد الماضي بسبب برامج التقشف.
لن يُجل هذا الصدام سريعاً، لأن قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالديون وعجز الموازنة جرى تعليقها خلال فترة انتشار جائحة كورونا وستستمر معلقة حتى نهاية 2022.
قد تشكل شخصية من سيتولى حقيبة وزارة المالية في ألمانيا عبر المباحثات الراهنة حول تشكيل حكومة ائتلافية، مؤشراً على سياسات الموازنة، كما أن المرشح لهذا المنصب كريستيان ليندنر معروف على أنه صقر. ما تتسم به البلاد من مزيج ضبط الإنفاق والبيروقراطية راكم لديها فعلاً تأخير استثمارات بمئات المليارات من اليورو.
قامت فرنسا أخيراً بزيادة خطط الإنفاق في موازنة 2022 بهدف حماية القطاع العائلي من ارتفاع أسعار الطاقة، ويقود رئيسها إيمانويل ماكرون شعلة تطبيق سياسات داعمة للنمو في مختلف أنحاء أوروبا.
يُقر وزير المالية برونو لو مير بتحدي خفض المديونية، غير أنه يقول أن هناك أولويات أهم في فترة ما بعد الأزمة، مثل مواجهة التضخم وانعدام المساواة والاستثمار بهدف إعادة الصناعة والوظائف إلى فرنسا.