تستمر فورة أسعار الطاقة العالمية في الارتفاع أعلى من متوسط السنوات بل والعقود الأخيرة، من النفط إلى الغاز والفحم، لكن لا تزال الدول المستهلكة والمستوردة الكبرى تجري المحاولة تلو الأخرى لكبح هذه الارتفاعات بطرق مختلفة، سواء بالضغط على كبار الدول المنتجة والمصدرة مثلما فعلت الولايات المتحدة في الـ 45 يومًا الأخيرة، أو تنويع مصادر التوريد مثلما تحاول الصين، أو تقديم الدعم لشركات الطاقة والتكرير الوطنية لمنع تمرير هذا التضخم في الأسعار إلى المستهلك النهائي مثلما فعلت اليابان، لكن كل هذه الجهود لم تفلح في علاج المشكلة الرئيسية: رفع المعروض أو خفض الطلب للالتقاء عند نقطة توازن.
محاولات يائسة
في محاولة أخيرة يائسة، بعد تزايد الضغط الشعبي والإعلامي وارتفاع سعر الوقود، تفتق ذهن الإدارة الأميركية إلى مجابهة أسواق النفط بفكرة جديدة تتمثل في:
اولا: التنسيق العالمي المشترك.
ثانيا: تشكيل فريق الأحلام من كبار المستهلكين في مواجهة فريق كبار المنتجين.
الفكرة ليست جديدة كلياً، فالرئيس الأسبق «أوباما» حاول تنفيذها في 2011 مع أزمة ليبيا، لكنها لم تكن بهذا القدر من الفاعلية والكفاءة لتُحدث الأثر المطلوب. تعتمد هذه اللعبة على اختبار أعصاب مستثمري وتجار النفط ووضعهم تحت الضغط النفسي عبر التلويح باستخدام جماعي للمخزونات الإستراتيجية للدول الكبرى في توقيت متزامن وباتصالات مفتوحة في شكل تكافلي موحد بين قادة العالم المستهلك للنفط.
خطة لعب جديدة
قبل نحو 45 يومًا بدأت سلسلة من الضغوط والتصريحات والبيانات الصادرة عن البيت الأبيض والوكالات الأميركية المعنية تنادي بضرورة خفض أسعار الطاقة وزيادة المعروض ليقابل الطلب الهائل، الذي ازدهر بعد الانتعاش الاقتصادي الأخير، ومن ناحية أخرى استمرت أسعار النفط في الارتفاع أو الثبات على مستويات مرتفعة أصلا بالمقارنة بعام سبق أو حتى بما قبل الجائحة.
لكن بعد تصريحات الإدارة الأميركية عن خطة اللعب الجديدة: التنسيق العالمي المشترك، وبدأ السوق في الانتباه قليلاً إلى هذا التحرك الجديد من نوعه، ليست المرة الأولى للسحب من المخزونات، لكنها المرة الأولى للتعاون الجماعي والتكافلي بين كبار المستهلكين في السحب من احتياطياتهم الاستراتيجية، ما نتج عنه انخفاض في سعر النفط بمقدار، ورغم أنه انخفاض معقول لكن السعر يظل أعلى من مستويات ما قبل الجائحة ولا يعالج أزمة التضخم.
سلوك معادٍ
مع استمرار يأس الإدارة والمشرعين في الولايات المتحدة، التي تُعد أكبر مستهلك للنفط في العالم، وعدم قدرتهم على خفض الأسعار وتهدئة الشارع الغاضب، أمر الرئيس «بايدن» لجنة التجارة الفدرالية بالتحقيق في اختلافات بالأسعار وتلاعبات محتملة في محطات الوقود، بما يمكن تسميته بـ «سلوك معاد للمستهلك» من جانب شركات توزيع النفط المحلية.
هناك تناقض غريب في الولايات المتحدة يتحدث عنه الكثيرون من الباحثين والمحللين في أسواق الطاقة، من ناحية تقول إدارة «بايدن» (الديموقراطية) إنه على الشركات المحلية (أغلبها تميل ناحية الجمهوريين) ضرورة مراعاة التغير المناخي والحفاظ على البيئة ووقف التكسير الهيدروليكي في استخراج النفط الصخري، ومن ناحية أخرى تطلب نفس الإدارة من منتجي النفط في الخارج زيادة إنتاجهم لخفض حُمى الأسعار والتضخم!
هذا التضارب، سبب ضمن أسباب كثيرة تجعل الشركات الأميركية المحلية لا تستجيب لدعوات «بايدن» لزيادة الإنتاج على حساب أرباحهم لتخفيض الأسعار، فالإدارة في نظرهم لا تهتم كثيراً بمصلحة المستهلك ولا بالمناخ بقدر اهتمامها بالشعبية والفوز بالانتخابات، ومن ناحية أخرى فشركات النفط الصخري الأميركية حالياً تعيش واحدة من أفضل فتراتها عند هذه المستويات السعرية وبهذه الكميات الحالية، ولا ترى أي ضرورة لرفع الإنتاج لإرضاء الإدارة والرئيس.
متعطشة للنفط
بسبب انخفاض تغطية المخزونات للاستهلاك اليومي الهائل، الذي تتسم به هذه القوى الصناعية الكبرى الشرهة للطاقة والمتعطشة للنفط، فإن أثر هذه الخطوة باستخدام ورقة الاحتياطيات الاستراتيجية لن يؤتي أُكله ما لم يتوازن العرض والطلب بشكل طبيعي.
لكن ما يجعل الأسواق متفائلة بعض الشيء بتحسن أسعار النفط هو عودة إصابات كورونا للارتفاع في عدد من الدول المستهلكة للنفط في الصين وأوروبا – رغم أنه شيء غير إنساني – وهي نظرة براجماتية بحتة تفترض عودة بعض الإغلاقات، وهو ما يعني انخفاضاً في مشتريات الطاقة فيقترب منحنى الطلب إلى منحنى العرض، وتهدأ الأسعار.
لكن ما لم يحدث أي شيء يعكر صفو فورة الطلب، وطالما استمرت حركة الطيران والنقل والسفر وتروس المصانع والآلات في الدوران، فإن أسعار الطاقة سوف تستمر عند مستوياتها ما لم تتوازن منحنيات العرض مع الطلب للالتقاء عند نقطة التوازن.
المصادر: أرقام – بلومبرغ – وكالة الطاقة الدولية – إدارة معلومات الطاقة الأميركية – ستاتيستا – مركز أبحاث cfr.
اللعب بأوراق عدة
تحاول الإدارة الأميركية اللعب بأوراق عدة لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار الطاقة:
1- الضغط على المنتجين (أوبك+).
2- لو لم تفلح الورقة الأولى: يتم الضغط على الشركات المحلية لمنع رفع الأسعار بشكل استغلالي.
3- لو لم تفلح الورقة الثانية: إيعاز الكونغرس بإعادة إحياء قانون قديم لمقاضاة دول أوبك (NOPEC).
4- لو لم تفلح الورقة الثالثة: التلويح باستخدام المخزونات الاستراتيجية الأميركية للنفط.
5- لو لم تفلح الورقة الرابعة: التلويح بالتنسيق الجماعي المشترك.
مخزونات الصين
في ظل أزمة طاحنة تعاني منها «بكين» بسبب النقص في موارد الطاقة المختلفة وعلى رأسها الفحم والنفط والغاز، تراجع الاحتياطي من النفط سواء التجاري أو الاستراتيجي إلى أقل مستوياته من نوفمبر 2008، وعلى ما يبدو ان هذا الوضع السيئ كان سبباً رئيسياً في عقد مباحثات رفيعة المستوى بين قادة الولايات المتحدة والصين الأسبوع الماضي، وهو أيضا كان الدافع الأساسي لاستجابة الصين للدعوة الأميركية للإفراج عن جزء من المخزونات لتهدئة لهيب الأسعار.